قال القحطاني: "يا أشعرية يا زنادقة الورى" فعد القوم الذين هم أهل السنة والناصرون لدين هذه الملة كفاراً وزنادقة.. ثم أنِسُوا أيضاً بهذا المذهب -أعني علم الأصول- ودرّجتهم الأيام إلى أن طالعوه وتمهروا فيه، حتى كان فيه منهم أئمة وعلماء، ولكن بقي في نفوس أرباب المسائل -أعني أهل الفروع- استنكار لذلك إلى قريب من زماننا هذا، فإن ذلك الاستنكار لم ينتسخ من نفوسهم بالكلية، كما استنسخ استنكار المنكرين لعلوم الحديث قبل ذلك، ولكن صار الحامل لهذا العلم آمناً منهم في نفسه وماله، متكلماً بما شاء من علمه، يملي فيه غير مترقب ولا خائف.
فصار هذا العلم وعلم الحديث، ومذاهب الأئمة ومسائل الفروع، كل ذلك دين الله تعالى يجب الِإيمان به والعمل بمقتضاه، بعد أن كان فيه ما كان.
ولما امتدت الأيام، وصل إلى هذه الجزيرة كتب أبي حامد الغزالي متفننة، فقرعت أسماعهم بأشياء لم يألفوها ولا عرفوها، وكلام خرج به عن معتادهم من مسائل الصوفية وغيرهم من سائر الطوائف الذين لم يعتد أهل الأندلس مناظرتهم، ولا محاورتهم، فبعدت عن قبوله أذهانهم، ونفرت عنه نفوسهم وقالوا: إن كان في الدنيا كفر وزندقة فهذا الذي في كتب الغزالي هو الكفر والزندقة، وأجمعوا على ذلك، واجتمعوا للأمير إذ ذاك وحملوه على أن يأمر بحرق هذه الكتب المنسوبة إلى الضلال بزعمهم، وعزموا عليه في ذلك حتى أجابهم إلى ما سألوه منه، فأحرقت كتب الغزالي وهم لا يعرفون ما فيها، وخاطب الأمير إذ ذاك جميع أهل مملكته بأمرهم بحرقها، ويعلمهم أنه هذا هو الذي أدى إليه نظر العلماء، وقرئت مخاطبته على المنابر، وشنع الأمر بذلك تشنيعاً عظيماً، وامتحن من كان عنده منها كتاب، وخاف كل إنسان على نفسه أن يرمى بأنه قرأ منها كتاباً أو اقتناه، وكان في ذلك من الوعيد ما لا مزيد عليه...


الصفحة التالية
Icon