٣ - صلاته الشخصية وأثرها في تكوينه الفكري:
كان القرن الخامس في المشرق قرن الِإنتاج الخِصْبِ، والتحقيق العميق، والبحث الواسع، والتحرير البديع، في الفقه، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والكلام، والتصوف، كان كل علم من هذه العلوم قد قيّض الله سبحانه وتعالى له من يبعث فيه روح الحياة فيجدد له طرقه، وييسّر له سبله، فكان ذلك واضحاً في فقه القدوري (١) والسرخسي (٢) من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب (٣) والباجي من المالكية، والماوردي (٤) وأبي إسحاق الشيرازي (٥) من الشافعية، وفي كتاب البرهان والِإرشاد لِإمام الحرمين، وفي تآليف البيهقي، ورسائل القشيري (٦). لقد كانت بغداد ودمشق والقدس ملتقى لهذه الفنون والمعارف العقلية والنقلية، وكان ابنُ العربي قد انقطع في -هذه الأماكن المباركة- للمطالعة والطَّلَب والتحصيل والتحرير، فلازم الشيوخ الأعلام بالمدرسة النظامية (٧)، وأقبل على الغزالي إقبال المتشوق
(٢) هو شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي (ت: ٤٩٠) صاحب "المبسوط" الذي شرح به "الكافي" للعالم الشهيد (ت: ٣٣٤)، ويعتبر من أهم الكتب المعتمدة في المذهب، لا يعمل بما يخالفه، ولا يركن إلاَّ إليه، ولا يفتى ولا يُعَوَّل إلا عليه.
(٣) هو أبو محمد عبد الوهاب بن نصر المالكي (ت: ٤٢٢) صاحب "التلقين" وهو الكتاب الذي أصبح عمدة من عمد المذهب المالكي، وذلك لاختصاره المهذب للفقه المالكي.
(٤) هو أبو الحسن علي محمد الماوردي (ت: ٤٥٠) صاحب "الحاوي" ومن أعظم الكتب في الفقه الشافعي بل في الفقه المقارن.
(٥) المتوفى سنة: ٤٧٦ صاحب "التنبيه" و"المهذب" في الفقه الشافعي و"التبصرة" في الأصول.
قلت: وهذه الكتب التي ذكرتها آنفاً هي التي كانت معتمدة في مدارس القدس ودمشق وبغداد، فدراسة ابن العربي لها قد أكسبته قوة على الرجوع بالأحكام إلى مداركها، ومسايرة الأئمة المجتهدين في أنظارهم للمقاصد والمعاني، مسايرة تخلص بها من حضيض التعصب المذهبي الرائج آنذاك في الأندلس، إلى أوج التحقيق والإِنصاف.
(٦) محمد الفاضل بن عاشور: ومضات فكر: ١٢٩.
(٧) أمثال أبي القاسم الطوسي (ت: ٥٢٩)، وأبي بكر الشاشي (ت: ٥٠٧) وأبي سعيد الحلواني (ت: ٥٢٠) وغيرهم كما هو مبين في مقدمة القانون.