سئلوا عن ذلك؟ قالوا: "سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي وإلا فهو مُتَقَوِّل". أي: يقول كلامًا كذبًا.
فلما جاءا وأخبرا قريشًا بما قال لهما أحبار اليهود، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: ((أخبركم بذلك غدًا)) ولم يقل: إن شاء الله، فلبث الوحي خمسة عشر يومًا لا ينزل عليه بذلك، مما أثار الأقاويل كيف كان يقول: سأخبركم غدًا، وها هو ذا لم يأته خبر بذلك طوال هذه الأيام، ونزل القرآن بعد هذا الغياب يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ (الكهف: ٢٣، ٢٤).
وجاءه خبر ما سألوا عنه، فذكر الله في سورة "الكهف" قصة أصحاب الكهف، كما ذكر الرجل الطواف بالمشارق والمغارب وهو ذو القرنين، وذكر في الإسراء إجابة سؤالهم عن الروح فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥).
فدل هذا التأخير في نزول الوحي على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يقول هذا القرآن من عنده، وإنما هو وحي الله إليه، كما دل نزول هذه الآيات بإجابة المشركين، على عناية الله برسوله، حيث رد كيد اليهود في نحورهم، وأحبط خطة قريش في محاولتها إحراج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان الواجب على من سألوا عن ذلك، وشاهدوا صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفيئوا للحق، وأن يعلنوا اعترافهم به، وأن يكونوا من حماته والمصدقين به، ولكنهم لم يسألوا ليؤمنوا، وإنما سألوا كبرًا وعنادًا، فلم تنشرح صدورهم للحق وظلوا في غيهم وكفرهم سائرين.