أولًا: أن الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ﴾ (الكهف: ٣٢) فأسند الجعل إلى قدرته القادرة، وبين بذلك أن هذا رزق من الله سبحانه وتعالى؛ ليكون من البداية هذا سببًا في أنه يستحق أن يشكر لا أن يكفر، وذكر أنه لم يعطه -لم يعطِ هذا الرجل- جنة واحدة، إنما أعطاه جنتين، أي: حديقتين من أعناب.
وسمى الحديقة جنة ليدلنا على أن هذه الحديقة، أو كل حديقة من الحديقتين، فيها من الأشجار والنخيل ما يستر من يكون بداخلها، مما يدل على أنها جنة عظيمة، وبين هذا أيضًا في قوله: ﴿مِنْ أعْنَابٍ﴾ فهي جنة فيها هذا الثمر العظيم وهو العنب، وذكر أن الجنتين على حوافهما نخيل: ﴿حَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾ (الكهف: ٣٢)، جعل بين الجنتين زرعًا، فبين بذلك أنها أرض متصلة لا يوجد بينها فراغ غير مزروع، وفي قوله: ﴿جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾ (الكهف: ٣٢) في تنكير قوله: ﴿زَرْعًا﴾ ما يدلك على تنوع هذا الزرع، وأنه كان زرعًا كثيرًا، بخلاف ما هنالك من أعناب ونخيل.
ثم قال جل من قائل: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ (الكهف: ٣٣) فبين بذلك أن كل جنة من الجنتين قد أعطت غاية ما يمكن أن يكون من ثمر في مثل هذه الحدائق الغناء، وفي قوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ (الكهف: ٣٣) معناه أنها أعطت ثمارها كاملة غير منقوصة، ولعلنا نشاهد أن كثيرًا من الحدائق يعتريها ما يعتريها من ظروف مناخية أو ما إلى ذلك، فلا تعطي الثمرة الكاملة، لكن هاتين الجنتين كل جنة منهما آتت أكلها، ولم تظلم منه شيئًا.
ومما يزيدها بهجة ورواء أن الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ (الكهف: ٣٣) فجر الله -سبحانه وتعالى- خلال الجنتين -أي بين الجنتين- نهرًا عذبًا، فكان هذا النهر متعة للناظرين، وسببًا أدى إلى وصول الماء الدائم والمستمر إلى هاتين الجنتين، فكان