إنها قصة ليست قصة من وحي الخيال، جاء بها القرآن فاختلق شخصياتها، ورتب أحداثها، وأجرى الحوار بين المشاركين فيها إبرازًا لمعنًى من المعاني، وضربًا لمثل من الأمثال، دون أن يكون لذلك وجود واقعي في الحياة، إنما يعبِّر القرآن عن واقع حيٍّ ملموس، ويذكر تاريخًا لأناس حدث منهم ذلك، ولعلكم تلمحون معي أنه لم يذكر من حدث لهم هذا الأمر، على طريقته في عرض موضع الحكمة مما يسوق من قصة أو حدث، فلا يعنيه أن يذكر الأسماء، فذكرها لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، مع أن الروايات قد وردت ببيانهم، فذكر بعض السلف أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: "كانوا من قرية يقال لها ضروان، على ستة أميال من صنعاء" وقيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغلّ منها يرد فيها ما تحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفّر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.
والقرآن حين يعرض هذه القصة يعرضها -كما تعلمون- بأسلوبه المعجز، مكتملة البناء القصصي في التشويق والحبكة القصصية، مع أنها قصة تساق من خلال آيات بينات، تتوالى هذه الآيات في عذوبتها ورقتها وروعتها، فما أعظمها من آيات.
وتبدأ القصة مرتبطة بما ورد في صدر السورة من بيانٍ لحال المشركين في عتوهم ورفضهم لدعوة الحق، مع نصاعتها وقوتها في ذاتها، ومن حملها إليهم، هذا النبي الكريم، صاحب الخلق العظيم، الملقب فيما بينهم بالصادق الأمين، فحالهم في رفضهم لدعوة الإسلام وكفرهم بالله ورسوله حال أصحاب