المساكين ما يعطي، بل كان الرجل يخبر المساكين بموعد جنيه لثمار جنته حتى يحضروا لينالوا من خيره وبره، أمّا الآن فهذه الحديقة ملك خاصٌّ لهم، فهم لذلك يستطيعون أن ينفِّذوا فيها ما يحبون، وكلمة الحرد في قوله: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ (القلم: ٢٥) لم تذكر في كتاب الله إلّا في هذه الآية، وكأن اختيار هذه الكلمات الفريدة في القرآن، لمناسبة أن هذه القصة أيضًا فريدة لم تذكر في القرآن إلّا في هذه السورة، سورة "القلم".
فماذا كان من أمرهم حين وصلوا مصبحين إلى جنتهم، هنا يأتي مشهد آخر ترسمه كلمات الآيات فتقول: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ (القلم: ٢٦ - ٣٢).
وبين هذا المشهد وسابقه ترى مسافة يملؤها الفكر؛ ليقول: بأن هؤلاء الأبناء بعد أن قام كل منهم مبكِّرًا ينادي إخوته ليخرجوا جميعًا مبكرين، ثم انطلقوا بجمعهم يتكلمون بصوتٍ خفيض حتى لا يلفتوا إليهم الأنظار، ويؤكدون ما بيتوه ليلًا من حرمان المساكين، وأنهم صاروا يظنون -لجهلهم- أنهم قادرون على الاستحواذ على ثمار جنتهم، والانفراد بها وحدهم، دون أن يعطوا منها فقيرًا شيئًا، فساروا حتى وصلوا إلى حديقتهم؛ فماذا كان؟.
القرآن يعبِّر عن ذلك بهذه الكلمات، التي تحمل الأسى والحزن، وتصوّر الدهشة التي اعترت هؤلاء الأبناء، فهي تذكر أنّهم بمجرّد أن وصلوا ورأوها أنكروا أنفسهم، ومن شدة المفاجأة قالوا: ﴿إِنَّا لَضَالُّونَ﴾ (القلم: ٢٦) أي: إنا سلكنا طريقًا آخر أدّى بنا إلى بستان آخر محترق ليس به ثمر، وبستاننا كان وارف الظلال مثقلًا بالثمار، ثم أفاقوا من دهشتهم، وتيقنوا أن هذه جنتهم فقالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ (القلم: ٢٧) أي: إنّ الله حرمنا من ثمار جنتنا، بل حرمنا من بقاء أشجارها لأنا