وقد بلغ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في ذلك القمة العالية، يستمع إلى خصومه في أدبٍ، ويرد عليهم بما يقنعهم، ويلقي بدعوته إلى الناس نورًا يضيء لهم الطريق، في عبارات سهلة وأدلة باهرة وحجج واضحة، وابتدأ ذلك من أول دعوته إلى آخرها، في خطبه العامة، ومجالسه الخاصة، وحديثه إلى أصحابه وإلى غيرهم، فأقنع العقول وروى الأرواح والأفئدة، وهذا مثال لحكمته وسعة أفقه في دعوته، نذكره من قصة عتبة بن ربيعة.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: "حدِّثت أن عتبة بن ربيعة -وكان سيدًا- قال يومًا وهو جالس في ناد قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السبطة في العشيرة -أي من المكانة والمنزلة- والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قلْ -يا أبا الوليد- أسمعْ)) قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذه الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا -أي: جعلناك سيدًا علينا- حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رأيًّا -أي من الجن- تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب


الصفحة التالية
Icon