وهذا عفوه عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره، وهذا عفوه عن الأعرابي الذي أراد أن يقتله، وعفوه عن الأعرابي الذي قال له: يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل، إلى غير ذلك مما يدل على عظيم عفوه وحسن خلقه.
والدعاة أولى الناس بالاتصاف بهذه الأخلاق العالية، وبها يستلّون سخائم القلوب، ويجمعون الناس حولهم، لا يثورون ولا يغضبون إلّا إذا انتهكت حرمات الله، وقد قال تعالى في صفات عباد الرحمن: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان: ٦٣).
وهذا الخلق الكريم للدعاة يجعلهم في حاجة إلى التخلُّق بخلق مهمّ، ألا وهو الصبر، الصبر في معناه الواسع؛ صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي، وصبر في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبر في مقام الدعوة إلى الله، وصبر على ما ينزل بهم من بلاء، وصبر على مشقات الجهاد في سبيل الله، فالصبر للدعاة عُدّة وزاد وذخيرة، يعينهم على مشقات الطريق ووعورته، ولذلك أكثر الله من الأمر به لرسله والمؤمنين، والآيات في ذلك كثيرة، تقرأ منها قول الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: ٣٥)، ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود: ١١٥)، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ (طه: ١٣٠)، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (الروم: ٦٠)، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: ١٠)، ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ (مريم: ٦٥)، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ (طه: ١٣٢)، وفي توجيه المؤمنين إلى الصبر نقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ٢٠٠)، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة: ٤٥).