والضلال ضياع وانصراف عن جادة الصواب، وهذا الضلال الذي ذكروه موصوف بأنه مبين، أي: واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وحرف الجر في قولهم: ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ يفيد أنّ الضلال محيط به في نظرهم من كل جانب، بل هو منغمس فيه إلى أذقانه، وإذا كانوا وهم سادة القوم وأهل الرأي فيهم، يرون نبيهم في ضلال مبين كما قالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ﴾ فهذا يعني رفض دعوته بقوة، وأنه لا مجال للنقاش معهم في هذا الأمر، فانظر إلى أسلوب نوح في دعوته، وما يمتلك من القدرة على الإقناع لو كانوا يعقلون، لقد أجابهم بقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْم لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: ٦١، ٦٢) إلى آخر ما قاله.
فناداهم للمرة الثانية مذكرًا لهم بأنهم قومه، وهل يفرّط عاقل في حق قومه، وهل يقصِّر في إرشادهم إلى طريق السداد والرشاد، كيف وهو جزء منهم! يسعده ما يسعدهم ويشقيه ما يشقيهم، ناداهم بهذه الصفة ليفتح طريقًا إلى قلوبهم وعقولهم، وبَيّن لهم بأنه ليس به ضلالة، وكل ما في الأمر أنه رسول من رب العالمين إليهم، فذكرهم بهذه العبارة بمن رباهم على موائد كرمه، في جملة تربيته للعالمين، وهل ينكر عاقل أنّ الله هو الخالق الرازق، الذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وأنه هو الذي يدبّر أمر خلقه، إنهم لا ينكرون ذلك، ولا يستطيع واحد منهم أن يدّعي بأن هذا الحجر الذي صوّره بيده وأقامه معبودًا له، يستطيع أن يصنع شيئًا من ذلك، ولذلك قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: ٧٣، ٧٤).


الصفحة التالية
Icon