وانظروا إلى حكمة نوح في دعوته؛ إذ لما قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الأعراف: ٦٠)، فنفى هذا الضلال بأبلغ وجه وأعظمه فقال: ﴿لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ﴾ (الأعراف: ٦١)، أي: أدنى ضلالة في أي جانب من الجوانب، فإن ضلالة اسم مرة كما تعلم، أراد أن يثبت رسالته فقال: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: ٦١)؛ إذ ربما فهموا أنه حين نفى عن نفسه ما رموه به من الضلال فأجابهم بنفي ذلك فيه، أنه لن يتحدث عن رسالته، فانتهز هذه الفرصة، وأضاف لهم دعوة في أسلوب شيق رائع، ذكر فيه دليلًا من أعظم الأدلة على أنه مرسل إليهم، فذكرهم بالرب الذي رباهم كما ربّى كل الخلائق، ومن عظيم تربيته أنه حين خلقهم لم يتركهم يتخبّطون في هذه الدنيا فيهلكون، إنما أرسل لهم الرسل وأنزل لهم الكتب، فإذا ما قال لهم بأنه رسول مرسَل من هذا الرب الكريم، الحليم العظيم، فردوا رسالته، فقد ردوا على الله كرامته لهم ورعايته، ولم يصدقوه سبحانه فيما أرسل إليهم رسوله، وأضاف نوح ما يفيد حرصه عليهم مما يستوجب تصديقه والإيمان برسالته فقال: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: ٦٢) فبيّن لهم أمورًا ثلاثة، كل أمر منها يكفي لتصديقه، فما بالك وقد اجتمعت.
أولها: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾ (الأعراف: ٦٨) فهو لا يخترع كلامًا يزيّنه لهم ويريد أن يحملهم عليه، إنما يبلغ رسالات ربه، والتبليغ بيان في إيضاح، يبذل فيه المبلِّغ كل جهده في توصيل رسالته، وهي هنا ليست رسالة واحدة، إنما هي رسالات، فكل أمر بلغه وكل نهي ذكره وكل نصيحة أسداها هذه رسالة من ربه، كما أنه أيضًا يحمل ما جاء به أبوه آدم، والأنبياء من بعده؛ كإدريس -عليه السلام- وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وشيث -عليه السلام- وقد أنزل عليه خمسون صحيفة،