اللغوي الذي كان يتميز بتعدد اللهجات وتباين صور النطق للعربية (١)، لا سيما في وقت كانت تسود فيه الأمية، ويصعب التنقل والامتزاج، ما عدا فرصا محدودة يلتقي فيها أفراد معدودون في مواسم الحج والتجارة لأيام معدودة، ثم يمضي كل واحد منهم لينخرط في حياة قبيلته أو بلدته.
وفي ذلك الظرف شاء الله تعالى أن يبعث نبيه محمدا ﷺ برسالة تدعو إلى التوحيد والتوحيد، وتحثّ على التعلم والتحضر، يقول القاسم بن ثابت السرقسطي (ت ٣٠٢ هـ): «إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه ﷺ والعرب متناءون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة (٢) لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت بها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير دربته (٣) تكلف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئا شديدا، ثم لم يكسر غربه (٤) ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط الله عنهم هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عادتهم، وكان رسول الله ﷺ يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوّقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضّله على جميع خلقه» (٥).
والقرآن الكريم نزل بلغة قريش، في الرأي الراجح، على نحو ما أشرنا إلى ذلك في المبحث الخاص بعربية القرآن، ومعنى ذلك أن رسول الله ﷺ تلقاه من جبريل عليه السّلام وتلاه على الناس بنطق عربي يطابق نطق العربية السائد في مكة المكرمة في ذلك الوقت، وكان كتبة الوحي يكتبون ألفاظ الوحي على نحو ما
(٢) العمارة، بكسر العين وفتحها، هي الشعبة من القبيلة، أو هي الحي العظيم.
(٣) دربته: ما تدرب عليه واعتاده.
(٤) الغرب: الحدّة.
(٥) نقلا عن البلوي: ألف با ١/ ٢١١، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص ١٢٨.