وكانت القراءات في القرن الأول تنسب إلى عدد من الصحابة، أو إلى المدن التي كانوا يسكنونها، فيقال: قراءة عبد الله بن مسعود أو قراءة أهل الكوفة، ويقال:
قراءة زيد بن ثابت أو قراءة أهل المدينة، وهكذا في القراءات الأخرى، لكن القراءات صارت تنسب بعد عصر الصحابة إلى علماء القراءة من التابعين وتابعيهم، ليس لأنهم تركوا قراءات الصحابة وابتدعوا قراءات جديدة، بل لأن القارئ من التابعين أو من تابعيهم صار يدرس القراءات القرآنية في الأمصار ثم يختار من مجموع ما درسه قراءة يقرأ بها ويعلّمها، وعناصرها مستمدة من قراءات الصحابة، وإن صارت تنسب إلى القارئ الذي اختارها، وكان القراء السبعة من بين عدد من قراء التابعين وتابعي التابعين الذين اختار كل واحد منهم قراءة نسبت إليه، مستمدا مادتها من القراءات التي تلقّاها عن شيوخه. وسوف نعرض هذا الموضوع في فقرتين: الأولى عن الاختيار في القراءة، والثانية عن القراء السبعة.
أولا- الاختيار في القراءة:
إن الاستجابة لحاجات المجتمع الإسلامي في عصر الصحابة والتابعين كانت تقتضي السرعة في إنجاز الأعمال وتثبيتها في الواقع العلمي من غير أن يتطلب ذلك تدوينها في شكل دراسات نظرية، أو توثيقها بعد ذلك في سجلات تاريخية، ومن ثم فإن الحديث عن القراءات القرآنية في تلك الحقبة وتطورها قد لا يغطي كل تفصيلات ما قام به علماء القراءة آنذاك في كل الأمصار، ولذلك سوف أركز على تتبع الموضوع في المدينة والكوفة اللتين كانتا أكثر الأمصار الخمسة نشاطا علميا في ذلك الوقت، مع الإشارة إلى بعض الروايات الأخرى الموضحة للموضوع.
كانت المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، وكانت قراءة القرآن فيها تعرف بقراءة العامّة (١)، وقراءة الجماعة (٢)، وقد تعرف بقراءة زيد بن
(٢) الباقلاني: نكت الانتصار ص ١٤٧.