وانتشرت قراءة أهل المدينة في الكوفة، لا سيما بعد انتقال الإمام علي، رضي الله عنه، إليها، لكن أهل الكوفة لم يتركوا قراءة ابن مسعود دفعة واحدة، فقد ظلوا متمسكين بما يوافق خط المصحف منها، حتى كان سعيد بن جبير (ت ٩٥ هـ) يؤمّ الناس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت (١)، لكن معالم قراءة ابن مسعود كانت في طريقها إلى الاضمحلال، فقد قال سليمان بن مهران الأعمش (ت ١٤٨ هـ): «أدركت الكوفة وما قراءة زيد فيهم إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرأها إلا الرجل والرجلان» (٢).
وإذا كنا نلاحظ أن قراءة ابن مسعود قد أخذت تختفي معالمها في أوائل القرن الثاني الهجري، فإن عناصر من تلك القراءة كانت قد دخلت في عدد من قراءات القراء المشهورين، خاصة ما يوافق خط المصحف منها، وهي تشكل أحد مصادر قراءة عاصم (ت ١٢٨ هـ) الذي قال: «ما أقرأني أحد حرفا إلا أبو عبد الرحمن السلمي، وكان أبو عبد الرحمن قد قرأ على علي، رضي الله عنه، وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن فأعرض على زر بن حبيش، وكان زر قد قرأ على عبد الله» (٣). فكانت قراءة عاصم إذن مختارة من قراءات شيوخه من التابعين.
وقد عرفت ظاهرة تأليف القراءة على ذلك النحو بظاهرة الاختيار، فكان أئمة الإقراء في القرون الأولى يختارون قراءة من مجموع القراءات التي يروونها عن شيوخهم، ويعلّمون بها تلامذتهم. وهذه الظاهرة قديمة ترجع جذورها إلى عصر الصحابة، فقد ذكر ابن الجزري أن ابن عباس «كان يقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، إلا ثمانية عشر حرفا أخذها من قراءة ابن مسعود» (٤).

(١) الذهبي: معرفة القراء ١/ ٥٧، وابن الجزري: غاية النهاية ١/ ٣٠٥.
(٢) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص ٦٧.
(٣) ابن مجاهد: كتاب السبعة ص ٧٠.
(٤) غاية النهاية ١/ ٤٢٦.


الصفحة التالية
Icon