الناس يكتفون بضبط قراءة واحدة يتلون بها كتاب الله تعالى، وأدى ذلك خلال القرون المتلاحقة إلى انتشار قراءات معينة وانحسار أخرى، بحيث صارت لا تعرف إلا في الكتب، ولا يضبطها إلا المتخصصون بدراسة القراءات وروايتها.
وأكثر القراءات انتشارا في العالم الإسلامي اليوم قراءة عاصم، ويقرأ المسلمون في بلاد المغرب برواية ورش عن نافع، وفي بلاد السودان برواية الدوري عن أبي عمرو بن العلاء، لكن قراءة عاصم آخذة بالانتشار في تلك البلدان أيضا.
ولم يكن تميز قراءة عاصم بالأمر الذي حدث في العصور المتأخرة، فهذا الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة ٢٤١ هـ يسأله ابنه صالح: أي القراءة أحب إليك؟ فقال: قراءة نافع، قال: فإن لم توجد؟ قال: قراءة عاصم (١).
وقال مكي عن قراءة عاصم: «فقراءته مختارة عند من رأيت من الشيوخ، مقدّمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها» (٢). فهذه ثلاثة أسباب ذكرها مكي لتميز قراءة عاصم، سوف نقف على شواهدها التاريخية بعد قليل، إن شاء الله.
وليس من اليسير القول إن قراءة عاصم سادت بلدان المشرق الإسلامي في قرن معين، ولكن لدينا شواهد وأقوال توضح جانبا من هذه القضية الكبيرة، منها أن الخطيب البغدادي ذكر أن أحمد بن سهل الأشناني المتوفى سنة ٣٠٧ هـ «هو أحد القراء المجودين، قرأ على عبيد بن الصبّاح روايته عن حفص بن سليمان حرف عاصم بن أبي النجود، واشتهر بهذه القراءة» (٣).
وتمضي قرون حتى نلتقي بقول أبي حيان الأندلسي (ت ٧٥٤ هـ) الذي يذكر فيه أن قراءة نافع هي التي ينشأ عليها أهل المغرب وأن قراءة عاصم هي القراءة

(١) السخاوي: جمال القراء ٢/ ٤٦٤.
(٢) التبصرة ص ٢١٩.
(٣) تاريخ بغداد ٤/ ١٨٥.


الصفحة التالية
Icon