وقد كان رسول الله ﷺ بعد ذلك اللقاء المبارك في غار حراء في حاجة إلى وقت للراحة والتأمل في حقيقة هذا الأمر الجديد في حياته، وتحقق ذلك بانقطاع نزول جبريل عليه مدة من الوقت جعلته يتشوق إلى لقائه مرة أخرى، بعد أن زال عنه الرّوع، وأخذ يتفكر في كلمات ورقة بن نوفل الذي لم يلبث أن توفي بعد أن سمع منه تفسيره لما وقع له في غار حراء، فروى ابن سعد عن عبد الله بن عباس «أن رسول الله ﷺ لمّا نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا، حتى كان يغدو إلى ثبير (١) مرة وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله ﷺ كذلك عامدا لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتا من السماء. فوقف رسول الله ﷺ صعقا للصوت، ثم رفع رأسه، فإذا جبريل يقول:
يا محمد أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، قال: فانصرف رسول الله ﷺ وقد أقرّ الله عينه، وربط جأشه، ثم تتابع الوحي بعد وحمي»
(٢).
ونقل البخاري الرواية بتفصيل آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري «قال وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمّلوني، فدثّروه، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) [المدثر]، ثم تتابع الوحي» (٣).
وهكذا ذهب في هذه الفترة ما وجده رسول الله ﷺ من الرّوع في لقاء غار حراء، وكذلك تشوّق، بعد ذهاب الرّوع عنه، إلى رؤية الملك مرة أخرى (٤).

(١) ثبير: جبل من جبال مكة. (ينظر: صفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع ١/ ٢٩٢).
(٢) الطبقات الكبرى ١/ ١٩٦.
(٣) صحيح البخاري ١/ ٦ و ٦/ ٢١٥، وصحيح مسلم بشرح النووي ٢/ ٢٠٦.
(٤) ينظر: العيني: عمدة القارى ١/ ٦٢.


الصفحة التالية
Icon