قال الحافظ ابن حجر: «وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان رسول الله ﷺ وجده من الرّوع، وليحصل له التشوّف إلى العود... » (١).
وقد أيقن رسول الله ﷺ بعد هذا كله أن الله تعالى قد اختاره رسولا، وصار يتلقى القرآن عن طريق جبريل فحمل أعباء الرسالة وأخذ يدعو إليها واستمر جهاده ثلاثا وعشرين سنة اكتمل خلالها نزول القرآن، وترسخت الدعوة والعقيدة في أرجاء الجزيرة العربية، قبل وفاته ﷺ (٢).

(١) فتح الباري ١/ ٢٧.
(٢) ذهب عدد من المؤلفين في علوم القرآن في عصرنا إلى أن مدة فتور الوحي كانت ثلاث سنين، معتمدين في ذلك على رواية عن عامر الشعبي أحد علماء التابعين (ت ١٠٣ هـ) (ينظر: محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي ص ١٢٥، ومحمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص ٣٠، وصبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن ص ٣٦، ومالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص ١٨٥).
والذي يبدو راجحا هو أن فتور الوحي لم يمتد ثلاث سنوات للأسباب الآتية:
١ - إن الرواية المنقولة عن عامر الشعبي لا تتحدث عن فتور الوحي أولا، وهي رواية غير موثوقة عند أهل العلم ثانيا، وجاء فيها «بعث لأربعين، ووكّل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكّل به جبريل» (ينظر: ابن حجر: فتح الباري ١/ ٢٧). وقال ابن سعد في شأن هذه الرواية: «فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر (يعني الواقدي شيخه) فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي ﷺ وأنّ علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم» (الطبقات الكبرى ١/ ١٩١).
٢ - إن ما ورد في روايات فتور الوحي لا يحدد المدة التي كانت بين نزول أول سورة العلق ونزول أول سورة المدثر، ويبدو أنها لم تطل كثيرا، ففي رواية البخاري «وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم» (صحيح البخاري ٦/ ٢١٥)، وفي طبقات ابن سعد «لما نزل الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا» (الطبقات الكبرى ١/ ١٩٦)، وفي السيرة النبوية لابن هشام «قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله ﷺ فترة من ذلك، حتى شق ذلك عليه فأحزنه» (السيرة النبوية ١/ ٢٤١).


الصفحة التالية
Icon