إن الاحتجاج باختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة القديمة عن المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان لا يكفي في الدلالة على أن ذلك كان اجتهادا من الصحابة (١)، وذلك لأن تلك المصاحف كانت جهدا فرديا خاصا لا يمكن أن يكون ما فيها حجة على المصحف الذي اجتمع عليه الصحابة ونقلته الأمة نقلا متواترا. ثم إن تلك المصاحف أحرقت في خلافة عثمان، أحرقها أصحابها أنفسهم (٢)، ثقة منهم بالمصحف الذي أجمع عليه الصحابة، واندثرت أخبارها، وما روي من وصف لترتيب السور فيها لا يخلو من الاضطراب، فهذا ابن النديم العالم المدقق يقول عن ترتيب السور في مصحف ابن مسعود: إنه رأى عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف ابن مسعود، وليس فيها مصحفان متفقان! (٣) وما ورد من روايات عن الصحابة بشأن قراءة النبي ﷺ للقرآن، وقراءتهم هم له، تدل على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضا، وأن الصحابة أخذوه عن رسول الله ﷺ فأسماء السور كانت معروفة في زمن النبي ﷺ وكان حفظة القرآن من الصحابة يتلونه على ترتيب معروف لديهم، ويختمون في أسبوع أو شهر أو أقل من ذلك على هذا الترتيب.
وما يدل على أن ترتيب السور على نحو ما هي عليه اليوم في المصحف كان معروفا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ما روي من تسميته سورة (الحمد لله رب العالمين):

(١) قال القرطبي (الجامع لأحكام القرآن ١/ ٦٠): «وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعليّ وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله ﷺ رتب لهم تأليف السور،
بعد أن لم يكن فعل ذلك»
.
(٢) رفض عبد الله بن مسعود إحراق مصحفه حين وصل المصحف المرسل إلى الكوفة من المدينة، ثم رضي وتابع إجماع الصحابة (ينظر: الترمذي: كتاب السنن ٥/ ٢٦٦، وابن أبي داود: كتاب المصاحف ص ١٧ - ١٨).
(٣) الفهرست ص ٢٩.


الصفحة التالية
Icon