بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف الوارد فى هاتين السورتين وزيادة ما فى الوارد فى سورة الجاثية من الألفاظ مع اتحاد المعنى المفصود فى الموضعين من منحهم واختلافهم؟
والجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية يونس تقدم قبلها دعاء موسى عليه السلام على فرعون وملئه بقوله: "ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدنيا... " الآية فأجاب سبحانه دعاء نبيه وطمس على أموال آل فرعون وملئه وأغرقه وآله ونجى بنى إسرائيل من الغرق وقطع دابر عدوهم وأورث بنى إسرائيل أرضهم وديارهم يتبوؤن منها حيث شاؤوا فقال سبحانه معرفا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: "ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق " أى مكناهم ومهدنا لهم أمرهم بإهلاك عدوهم وبما أورثناهم بعد ضعفهم من مشارق الأرض ومغاربها فبعد تمكن أمرهم واستحكام حالهم واستقرار أمر دينهم بما شاهدوه من الآيات وعظيم البراهين المعقبة لمن شاهدها اليقين اختلفوا جريا على ما سبق لهم ولغيرهم ممن أشار إليه قوله تعالى فى أول هذه السورة: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " ويناسب هذا كله تناسبا لا توقف فى وضوحه ولم يتقدم فى السورة ما يستدعى من حالهم أكثر من هذا.
أما آية الجاثية فتقدم قبلها بسط الدلالة والبراهين من لدن قوله تعالى: " إن فى السماوات والأرض لآيات للمؤمنين " إلى ما تبع هذا من التنبيه بخلقها وما بث سبحانه فيهما من أصناف المخلوقات واختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها بما ينزل من الرزق اليها وتصريف الرياح ثم ذكر سبحانه أن هذه الآيات إنما يعتبر بها ويهتدى بأنوارها من منحه الله تعالى العقل وهذاه إلى الاعتبار فقال: "آيات لقوم يعقلون " ولم يرد ذكر هذه الجملة للاعتبار بها فى موضع من كتاب الله تعالى أوعب منها فى هذه السورة وفى سورة البقرة وهى هناك أوعب لذكر الفلك وجريها فى منافع العباد وتسخير السحاب بين السماء والأرض وذكر تصريف الرياح وقد أعقب ذكر هذه الآيات فى الموضعين بقوله فى سورة البقرة: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " الآية إشارة إلى كفار العرب وسوء مرتكبهم وتعاميهم عن الاعتبار والاستدلال مع وضوح الأمر إذ لا يقبل العقل تكون هذه