والجواب أن ذلك إنما جرى بحسب مقتضى المقصود في كل من الآيتين، أما آية النحل فقد تقدمها قوله تعالى: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) (النحل: ٦٠)، فقوبل بحسب التفصيل ومقتضى التقابل بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل: ٦٠)، فتطابق الكلام وتناسب موزانة لفظ وجليل تقابل، ولم يقع قلبها ذكر السماوات والأرض، فلم يكن ليناسب ذلك ذكرهما بعده.
وأما آية الروم فتقدمها قوله عز وجل: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) (الروم: ٢٦)، ثم قال بعد: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الروم: ٢٧)، ووضوح التناسب في هذا غير محتاج إلى زيادة بيان.
الآية السابعة منها قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (النحل: ٦١)، وفي سورة الملائكة: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (النحل: ٦١)، فيهما سؤالان: أحدهما، قوله تعالى في الأولى: (بظلمهم) وفي الثانية (بما كسبوا) والثاني، قوله في الأولى (عليها) وفي الثانية (على ظهرها).
والجواب: أن آية النحل تقدمها قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) (النحل: ٥٨ - ٥٩)، فإشارة الآية إلى وأدهم البنات - وهو أعظم الظلم وأشنعه إذ لم يتقدم للمؤودة جريمة ولا شبهة يتعلق بها قاتلها - ناسب هذا ذكر الظلم، فقال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ)، والضمير في عليها للأرض، يفهمه سياق الكلام، فناسب ما أشير إليه من عظيم ظلمهم التوبيخ بذكر الظلم في قوله: (بظلمهم). ولما لم يتقدم في آية سورة الملائكة إفصاح بذكر الظلم بل تقدمها قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) (فاطر: ٤٢ - ٤٣) إلى قوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (فاطر: ٤٣)، فأشير إلى اجتراماتهم وسيء اكتسابهم بنفورهم ومكرهم السيء، فناسب ذلك قوله: (بما كسبوا) وقيل هنا: (ما ترك على ظهرها) والضمير للأرض يسره السياق كالأول، وقيل: (على ظهرها) ليناسب في طول تركيبه قوله: (بما كسبوا)، كما ناسب قوله (عليها) في الآية الأولى قوله: (بظلمهم) في قلة حروفه تناسب التوازن والتقابل، فورد كلّ على ما يجب.