ثم من الألفاظ على الجملة مجازية، وهي الواقعة على مسمياتها (لا) على أنها أسماء لها بل وضعت لمناسبتها لما وضعت الأسماء الحقيقية بإزائها، ومن المعلوم في عوارض التركيب الضرب المسمى بلحن الخطاب، وهو خذف الكلمة من الجملة مع إرادتها، ودلالة السياق والمعنى عليها، كالواقع في قوله تعالى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (الشعراء: ٦٣)، ولا شك أن المراد: فضرب فانفلق، ومما يلحق به عند الجمهور - إلا من قول بقول الكرخي - (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: ١٨٤)، والتقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر، فهذا من لحن الخطاب ومن معروف التخاطب الجاري، وهي دلالة المنطوق على مسكوت عنه يفهمه السياق وقصد المتكلم من عرف اللغة، نحو فهم (منع) الضرب والشتم من قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (الإسراء: ٢٣)، وهذا الضرب من المفهوم يجاري النصوص ولهذا لم يختلف فيه من أنكر القياس، فهذه جملة يستعان بها على تلقي ما يرد، وليست خاصة بالذي نحن فيه من هذه السورة ولا بموضوع دون موضوع.
ثم من المعلون - بإعلام الله سبحانه - أنه تعالى لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فموسى، عليه السلام، إنما خاطب أهله في هذه المحاورة باللسان العبراني (الذي هو لسان قومه، وجل كلام ربنا عن الحرف والصوت والتقييد بالجملة، فالوارد في كتابنا إنما هو حكاية المعنى الذي خوطب به موسى، عليه السلام، وخاطب به، واللسان العبراني) أقرب الألسنة إلى اللسان العربي، فما المانع أن يجري فيه ويطرد كل ما في اللسان العربي من الضروب المذكورة قل أو كثر (ذلك).
(ثم) في الجواب عما تقدم ما لا يفتقر فيه إلى بنائه على ما مهدناه. فأقول مستعيناً بالله سبحانه في قول موسى، عليه السلام، لأهله: (امكثوا) وسقوط ذلك في سورة النمل قد يكون مما قاله، عليه السلام، نطقاً باللغة التي كلمهم بها، وقد يكون مما فهمه عنه أهله بإشارة أو قرينة أو حال، فيكون قد أمرهم بذلك على كل حال فإما بنطق أو غيره، فمرة حكى معنى نطقه أو مراده بما قد فهم عنه أهله الأمر، ومرة اكتفى بما بعد (هذا) الأمر اقتصارً على ما يحصل المقصود، فلا اختلاف ولا اعتراض في ذلك.
وأما قوله: (لَعَلِّي آتِيكُمْ) في السورتين وقوله في النمل: (سَآتِيكُمْ) فإن حرف التسويف يفهم الاستقبال، و (ولفظ) لعل أيضاً يعطي ذلك مع زيادة الترجي والطمع، فيمكن لتقارب معنييهما أن يكون في لسانهم عبارة موضوعة للمعنيين معاً، فلم يكن بد من ورود الحرفين عند الحكاية ليحرز ذلك وقوع المعنى وحصوله على ما هو في لسانهم.