وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: ٧)، ثم قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) (الأنبياء: ٨) إلى قوله: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) (الأنبياء: ٩)، فنبهوا على السؤال، ثم ذكر من قصص الأنبياء أوضحه وأجلاه لمن اعتبر، وأورد ذلك إيراد التلطف بذكر تخليص أولئك العيلة، عليهم السلام، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ) (الأنبياء: ٢٥ - ٢٦)، ونظير هذا قوله تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (الرعد: ٣٠). فهذه الآي في قوة أن لو قيل: نحن نبين لهم وهم يكفرون، فهو سبحانه يذكر لنبيه ﷺ أحوال الأمم مع الرسل مع مشاهدة الآيات تأنيساً له ﷺ وتذكيراً بالصبر على قومه، (فعلى) هذا المنهج جرى الوارد من قوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) (الأنبياء: ٩٣) أي نبهناهم على السؤال، وأوضحنا (لهم) أمر من تقدمهم وعاقبة الاستجابة لمن تمسك بهدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يشبه شدة الوعيد ليبقى رجاؤه، عليه السلام، في استجابتهم، فلم يخل معنى الكلام مع الإخبار بتفرقهم عن بعض إبقاء تأنيس مناسباً لما تقدمه، ولهذا لم يقع بعد الآية تسجيل بتصميم على الكفر ولا إمعان في طرف التخويف الوارد في آية المؤمنون من قوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون: ٥٣) إلى قوله: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون: ٥٦) كما في آية الأنبياء آنفاً.
أما قوله في المؤمنون: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (المؤمنون: ٥٣) فمنزل على ما قبله منزلة قوله في سورة النحل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) (النحل: ٣٦) إلى قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (النحل: ٣٦)، وهذا وعيد شديد لمن حقت عليه كلمة العذاب ولم يجد عليه التذكار، فكان مجموع هذه الآي في قوة أن لو قيل لهم: قد بين لكم، وأطلعتم على مآل من كذب، وخوطبتم بما قيل للرسل: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون: ٥١)، وملة الكل ملة واحدة، ولم تؤمروا بما لا تطيقونه، فتقطعتم. إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كما جرى في سورة الأنبياء فقيل: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي فتفرقوا وما أجدي عليهم القرآن شيئاً، فهذه الآية أشد في التخويف والترهيب من الأخرى، وكل يناسب ما قبله. ولو وردت إحداهما موضع الأخرى لما ناسب، والله أعلم.