تقول (العرب) قاتله (الله) ما أشعره، لا يريدون دعاء على من يقولون له ذلك وإنما يقولون متعجبين، وإنما نزل القرآن بلسانهم، فقوله (فقتل كيف قدر) مناط بمن يصح منه التعجب، والله سبحانه متعال عن ذلك، وكأن قد قيل لهم: هذا مما تتعجبون منه وتقولون هذا الكلام، فقوله تعالى: (إنه فكر وقدر) إخبار عن حال الوليد وتفكره فيما يقول وتقديره ما يرد عليه إذ قال بأنه عليه السلام شاعر أو مجنون أو غير ذلك مما رموه به، وأنهم مكذبون في كل ما يرومون رميه به من ذلك لبيان حاله عليه السلام، وقوله: (فقتل كيف قدر) تعجب من إصابته في نفي الجنون والتكهن والشعر عنه صلي الله عليه وسلم في قوله: لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، فصدق تقديره في هذا لو أتم الله له الأمر. فالأول إخبار أعنى قوله: (إنه فكر وقدر)، والثاني تعجب عن إصابة تقديره بعد الفكر وهو قوله: (فقتل كيف قدر)، والثالث وهو قوله: (ثم قتل كيف قدر) تأكيد للتعجب من حالة في تحويمه لوا سابقة: (سأرهقه صعوداً)، والسابقة هي التي حملته على أدباره واستكباره فقال: (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدثر: ٢٤)، فنكص على عقبيه لما سبق له بعد مقاربته وتحويمه، (وبإزاء) ما تقدم من مقاربته وتحويمه في تنزيهه النبي صلي الله عليه وسلم عما رموه به ورد اتعجب، وفي طي الكلام شديد توعده على كفره بعد أن تبين له الأمر فضل على علم، ومثل هذا التكرار استعظاماً للواقع موجود في فصيح كلامهم، ومنه قول الشاعر.
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي.
وجاء بثم لتحرز نية اعتناء بهذا المعطوف بها وأنه أكد من الأول فوضح وجه ورود ما يتوهم تكراراً واستدعاء مقصود الكلام إياه، والله سبحانه أعلم.
الآية الثالثة من سورة المدثر قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (المدثر٥٣ - ٥٦)، وقال في سورة الإنسان: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان: ٢٩ - ٣٠). للسائل أن يسأل عما بين الآيتين من الاختلاف؟ وورود الضمير في قوله: " إنه " في الأولي مذكراً وتأنيثه في الثانية؟
والجواب، أن هذا مما لا إشكال فيه لأن المذكر به عظة أو موعظة وهو أيضا وعظ وتنبيه. فتارة تراعى العرب في مثل هذا جهة التذكير وتارة تراعي جهة التأنيث، فتحمل


الصفحة التالية
Icon