فإذا تقرر ما ذكرنا فاعلم أن تسميه ما يمنحه الله سبحانه أهل الجنة جزاء إنما ذلك فضل منه سبحانه، إذ الجزاء لهم على أعمالهم أكثر من أعمالهم بوعده سبحانه، فإذا إنما حاصلة عطاء وإحسان وإنعام، وإنما سمى جزاء من حيث قوبل به عمل وارتبط به بحسب الإنعام، إذ لا يجب عليه شئ، فهذا حال الجزاء والإحسان.
وأما الطرف الآخر فاسم الجزاء عليه أوقع وأطبق من حيث المقابلة، فلهذا قيل في هذا (جزاء وفاقاً) كما قال تعالى: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر: ١٧) (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور١٦)، وأما الجزاء الإحسانى فقد فاق الوفاق وعجز عنه التقدير، فلهذا أعقب قوله تعالى: (جزاء) بما يشعر بجريانه على حكم الإنعام والإحسان فقال تعالى (من ربك)، وفي هذه الإضافة ما يشعر بعظيم الرحمة وزلفى القرب بقوله: (من ربك)، ثم قال: (عطاء) فاعلم أنه لا يماثل ما ارتبط به من عمل العبد بل يفوق رجاء العبد وتقديره، ثم قال تعالى: (حسابا) فأشار إلى التضعيف المتقدم، ولم يكن ليلائم جزاء السيئة أن يقال فيها: (من ربك)، ولا لتسمى عطاء ولا حسابا لما بيناه، فورد كل على ما يناسب، ولا يمكن فيه العكس، والله أعلم
فإن قيل: قد ورد التصنيف فى جزاء السيئات قال تعالى: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) (هود: ٢٠).
فالجواب أن التضعيف هنا ليس على الحد المتقدم في تضعيف جزاء الحسنة، فإن المراد هناك أن الحسنة الواحدة يتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضعيف العذاب بتكثيره بحسب تكثير المجترحات، لأن السيئة الواحدة لا يضاعف الجزاء عليها بدليل قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: ٤٠)، وقد تمهد هذا، وتقدم بقبل قوله في أهل الامتحان: (يضاعف لهم العذاب) ما يشهد بما ذكرته يبين المراد وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (هود: ١٨ - ١٩)، فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجاً، وكفروا بالجزاء، فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب (منها) فتضاعف عليهم العذاب لتضاعف مرتكباتهم، لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس ما ذكر من التضعيف في هذا الطرف على حد ما في الطرف الآخر، وقد بين القرآن ذلك بغير الجواب عن تخليدهم وكيف نبه عليه أنه وفاق لكفرهم.
*****