إلاّ هذه الآية: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ أن لا يراها أحد، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أَيْ لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ، يَعْنِي عَلَى مَا كان يتعاطاه نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ، فَلَا حَرَجَ عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال ابن عباس: وجهها وكفيها والخاتم، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نهين عن إبدائها، كما قال عبد الله بن مسعود: الزِّينَةُ زِينَتَانِ، فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ: الْخَاتَمُ وَالسُّوَارُ، وَزِينَةٌ يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَهِيَ الظَّاهِرُ من الثياب، وقال مالك ﴿إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾: الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ (أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلاّ هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وهو حديث مرسل لأن خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ).
وقوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ يَعْنِي الْمَقَانِعَ يُعْمَلُ لها صفات ضاربات على صدورهن لِتُوَارِيَ مَا تَحْتَهَا مِنْ صَدْرِهَا وَتَرَائِبِهَا، لِيُخَالِفْنَ شِعَارَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تَمُرُّ بَيْنَ الرِّجَالِ مُسَفِّحَةً بِصَدْرِهَا لَا يُوَارِيهِ شَيْءٌ وَرُبَّمَا أَظْهَرَتْ عُنُقَهَا وَذَوَائِبَ شَعْرِهَا وَأَقْرِطَةَ آذَانِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَسْتَتِرْنَ فِي هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ وَالْخُمُرُ جَمْعُ خِمَارٍ: وَهُوَ مَا يُخَمَّرُ بِهِ أَيْ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْمَقَانِعَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ﴿وَلْيَضْرِبْنَ﴾ وَلِيَشْدُدْنَ ﴿بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ يَعْنِي على النرح والصدر فلا يرى منه شيء، وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها. وروى ابن أبي حاتم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَذَكَرْنَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ لِنِسَاءِ قريش لفضلاً وإني والله ما رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، ولقد أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ انقلب رجالهن إليهن يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِيهَا، وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَلَى كل ذي قرابته، فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ، فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ معتجرات كأنهن على رؤوسهن الغربان (أخرجه ابن أبي حاتم وأبو داود). وقال ابن جرير عن عائشة قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شَقَقْنَ أكتف مروطهن فاختمرن بها، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا بعولتهن﴾ أي أَزْوَاجَهُنَّ ﴿أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ كُلُّ هَؤُلَاءِ محارم للمرأة يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِزِينَتِهَا، وَلَكِنْ من غير تبرج. فَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِهِ، فتتصنع له بما لَا يَكُونُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ نِسَآئِهِنَّ﴾ يعني تظهر بزينتها أَيْضًا لِلنِّسَاءِ الْمُسَلِمَاتِ، دُونَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما