فأي متاع، وأي زاد روحي أو عقلي اصطحبه معه في تلك العزلة، التي انطلق منها بعد خمسة عشر عاماً الشعاع القرآني؟..
إننا نعلم عن هذا العصر أن العادات الوثنية في المجتمع الجاهلي كانت قائمة على أساس قديم من التوحيد التقليدي، الذي ينعكس بوضوح في خطبة أبي طالب، ولكن هذا التوحيد اللاشعوري لا يستتبع أية شعائر خاصة. فإن الكعبة كانت على وجه الخصوص معبداً للأصنام، أو مسرحاً سياسياً للأسر السائدة؛ أما فيما يتعلق بالحياة الدينية في مكة، فقد كانت منذ زمن طويل منظمة تبعاً لوحدة قبلية ملفقة، تجعل (هبل واللات والعزى) على رأس مجموعة آلهة القبائل العربية كلها، ولكن الأسر الكبيرة في مكة- بفضل التأثير السياسي والتجاري- قد استمسكت فوق هذه الوحدة الوثنية الملفقة بوحدانية غامضة، تنعكس في الذكرى التي حفظوها باعتزاز وفخر لجدهم البعيد (إسماعيل)، وعلى كل فإن هذه الذكرى لم تكن لتؤثر مطلقاً على عقائد العرب، أو تقاليدهم الحربية، وهذا يفسر لنا الصراع القاسي الذي سينشب بين المتمسكين بهذا النظام الجاهلي، وبين الإسلام الوليد.
وحتى أبو طالب، ذلك الشيخ القرشي الوقور الشريف الذي ذكرنا كلماته الكريمة المهذبة في خطبته، مات دون أن يكفر بالأصنام، على الرغم من توسل ابن أخيه إليه وإلحاحه عليه.
تلك كانت الفكرة الغامضة التي تسنى لنبي المستقبل أن يصطحبها في عزلته عن دين جده إبراهيم، ومع كل فيجب أن نضيف أن هذا الدين قد ظل في حالة أصفى عند بعض المتصوفة الذين كانوا يسمون في ذلك العصر "الحنفاء"، وهؤلاء الحنفاء كانوا رجالاً من طراز نادر، تركوا وثنية عصرهم لكي يعكفوا على عبادة إله واحد، لكن حياة التصوف التي عاشها هؤلاء النساك لم يصحبها أي نظام


الصفحة التالية
Icon