وهذا (العقل) الحديث الذي يفكر به شباب العالم الإسلامي، والذي يريد أن يدرك ما يرضيه ويطمئن إليه من دلائل إعجاز القرآن، هو لب المشكلة، فإن (العقل) هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة النظر ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة. فينبغي، قبل كل شيء، أن نتدبر أمر هذا (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، لأن فهم هذا (العقل)، هو الذي يحدد لنا طريقنا ومنهجنا في كل دراسة صحيحة، نحب أن نقدمها إليه حتى يطمئن ويرضى.
فمنذ أول الإسلام، خاضت الجيوش الإسلامية معارك الحرب في جميع أنحاء الدنيا، وخاض معها العقل الإسلامي معارك أشد هولاً حيث نزل الإنسان المسلم. وتقوضت أركان الدول تحت وطأة الجند المظفر، وتقوضت معها أركان الثقافات المتباينة تحت نور العقل المسلم المنصور، وظلت الملاحم دائرة الرحى قروناً متطاولة، في ميادين الحرب وميادين الثقافة، حتى كان هذا العصر الأخير.
انبعثت الحضارة الأوربية، ثم انطلقت بكل سلاحها لتخوض في قلب العالم الإسلامي، أكبر معركة في تاريخنا وتاريخهم. وهي معركة لم يحط بأساليبها وميادينها أحد بعد في هذا العالم الإسلامي ولم يتقص أحد آثارها فينا. ولم يتكفل بدراستها من جميع نواحيها من يطيق أن يدرس، ولست أزعم أني سأدرسها في هذا الموضع، ولكن سأدل على طرف منها، ينفع قارئ هذا الكتاب، إذا صح عزمه على معاناة دراسته دراسة الحريص المتغلغل.
لم تكن المعركة الجديدة بين العالم الأوربي المسيحي، وبين العالم الإسلامي، معركة في ميدان واحد، بل كانت معركة في ميدانين: ميدان الحرب، وميدان الثقافة. ولم يلبث العالم الإسلامي أن ألقى السلاح في ميدان الحرب، لأسباب


الصفحة التالية
Icon