معروفة. أما ميدان الثقافة، فقد بقيت المعارك فيه متتابعة جيلاً بعد جيل، بل عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم. وكانت هذه المعركة أخطر المعركتين، وأبعدهما أثراً، وأشدهما تقو يضاً للحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. وكان عدونا يعلم ما لا نعلم، كان يعلم أن هذه هي معركته الفاصلة بيننا وبينه، وكان يعلم من خباياها ما لا نعلم، ويدرك من أسرارها ووسائلها ما لا ندرك، ويعرف من ميادينها ما لا نعرف، ويصطنع لها من الأسلحة ما لا نصطنع، ويتحرى لها من الأسباب المفضية إلى هلاكنا ما لا نتحرى أو نلقي إليه بالاً. وأعانه وأيده أن سقطت الدول الإسلامية جميعاً هزيمة في ميدان الحرب. فسقطت في يده مقاليد أمورها في كل ميدان من ميادين الحياة، وصار مهيمناً على سياستها واقتصادها وصحافتها، أي سقطت في يده مقاليد التوجيه الكامل للحياة الإسلامية، والعقل الإسلامي.
وميادين معركة الثقافة والعقل ميادين لا تعد، بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته وفي معايشه، وفي تفكيره وفي عقائده وفي آدابه وفي فنونه وفي سياسته، بل كل ما تصبح به الحياة حياة إنسانية، كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض. والأساليب التي يتخذها العدو للقتال في معركة الثقافة، أساليب لا تعد ولا تحصى، لأنها تتغير وتتبدل وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة، لأن عقل المثقف يتكون يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وهو يتقبل بالتربية والتعليم والاجتماع، أشياء يُسَلَّمها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل وبالمكر الخفي، وبالجدل المضلل وبالمراد المتلون وبالهوى المتغلب، وبضروب مختلفة من الكيد الذي يعمل في تحطيم البناء القائم، لكي يقيم العدو على أنقاضه بناء كالذي يريد ويرجو.
وقد كان ما أراد الله أن يكون، وتتابعت هزائم العالم الإسلامي في ميدان الثقافة جيلا بعد جيل، وكما بقيت معارك الحرب متتابعة سراً مكتوماً