والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة (إعجاز القرآن)، قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديماً وحديثاً، بل أدى هذا الخلط إلى تأخير علم (إعجاز القرآن) و (علم البلاغة)، عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا إليها.
وحسن أن أزيل الآن لبساً قد يقع فيه الدارس لكتاب (الظاهرة القرآنية)، ففي (مدخل الدراسة)؛ وفي بعض فصول الكتاب ما يوهم أن من مقاصده تثبيت قواعد في (علم إعجاز القرآن)، من الوجه الذي يسمى به القرآن معجزاً. وهو خطأ، فإن منهج مالك في تأليفه دالّ أوضح الدلالة على أنه إنما عني بإثبات صحة دليل النبوة، وبصدق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله، وأنه كلام الله لا كلام بشر، وليس هذا هو (إعجاز القرآن) كما أسلفت، بل هو أقرب إلى أن يكون باباً من (علم التوحيد)، استطاع مالك أن يبلغ فيه غايات بعيدة، قصر عنها أكثر من كتب من المحدثين وغير المحدثين: فجزاه الله عن كتابه ونبيه أحسن الجزاء.
أما مسألة (إعجاز القرآن)، فقد بقيت خارج هذا الكتاب، وهي عندي أعقد مشكلة يمكن أن يعانيها (العقل) الحديث، كما يسمونه، حتى بعد أن يتمكن من إرساء كل دعامة يقوم عليها إيمانه بصدق نبوة رسول الله - ﷺ -، وبصدق الوحي وبصدق التنزيل. وأيضاً فهي المسألة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الشعر الجاهلي، وبالكيد الخفي الذي اشكلت عليه هذه القضية، بل إنها لترتبط ارتباطاً لا فكاك له بثقافتنا كلها، وبما ابتلي به العرب في جميع دور العلم، من فرض منهاج خال من كل فضيلة في تدريس اللغة وآدابها. بل إنها لتشمل ما هو أرحب من ذلك، تشمل بناء الإنسان العربي أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوق الجمال في الصورة والفكر جميعاً.
ومعرفة معنى (إعجاز القرآن)، وما هو وكيف كان، أمر لا غنى عنه لمسلم


الصفحة التالية
Icon