ولا لدارس، وشأنه أعظم من أن يتكلم فيه أمرؤ بغير تثبت من معناه، وتمكن من تاريخه، وتتبع للآيات الدالة على حقيقته. وأنا لا أزعم أني مستقصيه في هذا الوضع، ولكني مستعين بالله، فذاكر طرفاً مما يعين المرء على معرفته.
وذلك أن رسول الله - ﷺ -، بأبي هو وأمي، حين فجأه الوحي في غار حراء، وقال له: ((اقرأ))، فقال: ((ما أنا بقارئ))، ثم لم يزل حتى قرأ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق ٩٦/ من الآية ١ - ٥].
رجع بها وهو يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. وذلك أنه قد أتاه أمر لا قِبَل له به، وسمع مقالاً لا عهد له بمثله، وكان رجلاً من العرب، يعرف من كلامها ما تعرف، وينكر منه ما تنكر؛ كان هذا الروع الذي أخذه، بأبي هو وأمي، أول إحساس في تاريخ البشر، بمباينة هذا الذي سمع، للذي كان يسمع من كلام قومه، وللذي كان يعرف من كلام نفسه. ثم حمي الوحي وتتابع، وأمره ربه أن يقرأ ما أنزل عليه على الناس على مُكثِ. فتتبع الأفراد من عشيرته وقومه، يقرأ عليهم هذا الذي نزل إليه. ولم يكن من برهانه ولا مما أُمِر به أن يلزمهم الحجة بالجدال حتى يؤمنوا أنما هو إله واحد، وأنه هو نبي الله، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويقروأ له بصدق نبوته، بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه. ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة، إلا أن هذا المقروء عليهم، كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو، ولا من كلام بشر مثله. ثم أيضاً لا معنى لها البتة إلا أن يكون وكان في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا تمييزاً واضحاً بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر، والكلام الذي ليس من نحو كلامهم.


الصفحة التالية
Icon