وكان هذا القرآن يُنَزَّل عليه منجماً، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلاً كما تعلم، فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته. وإذن، فقليل ما أوحي إليه من الآيات يومئذ، وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تتامَّت وتجمعت في القرآن جملة كما نقرؤه اليوم، منطوٍ على دليل مستبين قاهر، يحكم له بأنه ليس من كلام البشر. وبذلك يكون دليلا على أن تاليه عليهم، وهو بشر مثلهم، نبي من عند الله مرسل.
فإذا صح هذا، وهو صحيح لا ريب فيه، ثبت ما قلناه أولاً من أن الآيات القليلة من القرآن، ثم الآيات الكثيرة، ثم القرآن كله، أياً ذلك كان، في تلاوته على، سامعه من العرب، هو الدليل الذي يطالبه بأن يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد، وهو وجه البيان والنظم.
وإذا صح أن قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه، ثبت أن ما في القرآن جملة- من حقائق الأخبار عن الأمم السالفة، ومن أنباء الغيب ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات على ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيله- كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب، وهو أن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين. وههنا معنى زائد، فإنهم إذا أقروا أنه كلام رب العالمين بهذا الدليل، كانوا مطالبين بأن يؤمنوا بأن ما جاء فيه من أخبار الأمم وأنباء الغيب ودقائق التشريع، وعجائب الدلالات على أسرار الكون، هو كله حق لا ريب فيه، وإن ناقض ما يعرفون، وإن باين ما اتفقوا على أنه عندهم أو عند غيرهم حق لا يشكون فيه. وإذن فإقرارهم من وجه النظم والبيان أن هذا القرآن كلام رب العالمين، دليل يطالبهم بالإقرار بصحة ما جاء فيه من كل ذلك، أما صحة ما جاء فيه، فليست هي الدليل الذي يطالبهم بالإقرار بأن


الصفحة التالية
Icon