نظم القرآن وبيانه، مباين لنظم البشر وبيانهم، وأنه بهذا من كلام رب العالمين. وهذا أمر في غاية الوضوح.
فمن هذا الوجه كما ترى طولب العرب بالإقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم، تجده من جنس كلامها لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين؛ ثم تجده مبايناً لكلامها، فما تدري ما تقول فيه من طغيان اللدد والخصومة. وإنه لخبر مشهور، خبر تحير النفر من قريش فيه وعلى رأسهم (الوليد بن الغيرة). لقد ائتمرت قريش يومئذ حين حضر الموسم، لكي يقولوا في هذا الذي يتلى عليهم وعلى الناس قولاً واحداً لا يختلفون فيه، وأداروا الرأي بينهم في تاليه على أهل المواسم، وتشاوروا أن يقولوا: كاهن، أو مجنون، أو شاعر أو ساحر، فلما آلت المشورة إلى ذي رأيهم وسنهم وهو (الوليد بن المغيرة)، رد كل ذلك بالحجة عليهم، ثم قال: ((والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة؛ وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته)).
فهذا التحير المظلم الذي غشَّاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فاستجاد النعت، كان تحيراً لما يسمعون من نظمه وبيانه، لا لما يدركون من دقائق التشريع، وخفي الدلالات، وما لا يؤمنون به من الغيب، وما لا يعرفون من أنباء القرون التي خلت من قبل.
وحمي الوحي وتتابع عاماً بعد عام، وأقبل - ﷺ - يلح جهرة فيقرأ القرآن عليهم وعلى من طاف بهم من العرب في بطن مكة، وفي مواسم الحج والأسواق؛ وهبت قريش تناوئه وتنازعه، وتلج في اللدد والخصومة، وفي الإنكار والتكذيب، وفي العداوة والأذى؛ فلما طال تكذيبهم وإنكارهم، على ما يجدون


الصفحة التالية
Icon