ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبُحة المستكين، وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأني لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض، ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب).
وهذا الذي أفضيت إليه من صفة الشعر الجاهلي كما عرفته، أمر ممكن لن اتخذ لهذه المعرفة أسبابها، بلا خلط ولا لبس ولا تهاون ولا ملل. وهذه المعرفة هي أول الطريق إلى دراسة شعر أهل الجاهلية، من الوجه الذي يتيح لنا أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الإسلام. فإذا صح ذلك- وهو عندي صحيح لا أشك فيه- وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة، ملتمسين فيه هذه القدرة البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم. فإذا تم لنا ذلك، فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه، خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر.
وههنا أمر له خطر عظيم، فلا تظنن أن الشأن في دراسة (الشعر الجاهلي)، هو شأن المعاني التي تناولها، والأغراض التي قيل فيها، والصور التي انطوى عليها، واللغة التي استخدمها من حيث الفصاحة والعذوبة وما يجري مجراهما، بل الشأن في ذلك أبعد وأعمق وأعوص، إنه تمييز القدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص الخصائص التي أتاحت للغتهم أن تكون معدناً للسمو، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سمواً يجعل للكلام حياة كنفخ الروح في الجسد القائم، وكقوة الإبصار في العين الجامدة، وكسجية النطق في البضعة المتجلجلة المسماة باللسان.


الصفحة التالية
Icon