أولاً: أن القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى- أي اليهود- يفقدون، لأسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا، نزعة التبليغ، فلا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم إلى غيرهم من الأمم، أي: الأميين- كما يقولون- حتى إننا إذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا: إن (الإعجاز) قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة إليه.
ثانياً: إن مشيئة الله قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، وأتى الدين الجديد لينسخ الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الإعجاز فيه، وتزول الحجة بزوال ضرورتها التاريخية.
ثم أتى عيسى بالدين الجديد، وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة، فأتى بإعجازه الخاص، بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. ولسنا بحاجة أن نكرر بالنسبة إلى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة إلى خصائص (الإعجاز) في الدين السابق، لأن القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه الإنسان، من جهة أنه إنسان يدرك الأشياء بعقله، مع ما في عقله من عجز عن إدراك حقيقة الدين مباشرة إن لم يكن هنا حجة خاصة، تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة (إعجاز).
فالأسباب تتكرر، وإنما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية والرومانية.
ولكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها، للأسباب نفسها التي ألغت جانب الإعجاز في دين موسى، لأنه يأتي بعد عيس رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق، دين عيسى عليه السلام، فيلغي ضرورة التدليل على صحة الإنجيل.


الصفحة التالية
Icon