على بينة من ذلك سأذكر لك قصة؛ ذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال ابن الزبعرى: والله لو وجدت محمدا لخصمته قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال له: إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١).
وأنزل الله أيضا وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) (١).
وتأمل في قوله سبحانه خَصِمُونَ وهل يجيد الجدل الجاهل الساذج وهل من يلقي هذه الشبه ولو كانت بواطل يكون ساذجا لا يسمو تفكيره إلى المعقولات
٢ - إن الله سبحانه أقسم في القسم المكي بالمعقول كما أقسم بالمحسوسات فمن ذلك قسمه بالقرآن في قوله يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) وأقسم بالملائكة في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) الآيات، وأقسم بالنفس الناطقة فقال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) [الشمس: ٧ - ٨]، وأقسم بحياة الرسول في قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) [الحجر: ٧٢] وأقسم بذاته تعالى فقال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) [الحجر: ٩٢] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) [المعارج: ٤٠] وأقسم بما لا يقع تحت الحس والمشاهدة فقال فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) [الحاقة: ٣٨ - ٣٩].
وأقسم بالزمن فقال: وَالْعَصْرِ (١) وهكذا يتبين لنا أن الله أقسم في القسم المكي بالمعقولات كما أقسم بالمحسوسات.
٣ - إن القسم بهذه الأشياء لا لكونها محسوسة، وإنما هو تنبيه إلى ما تشتمل عليه من إحكام في الخلق والصنعة وما تنطوي عليه من أسرار

(١) تفسير ابن كثير والبغوي ج ١٧ ص ٣٧ - ٣٨.


الصفحة التالية
Icon