وحده، حتى إذا ما آمنوا بالله دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم بالإيمان بالرسل، والملائكة، حتى إذا ما اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبّه، سهل عليهم بعد ذلك تقبل الأوامر والتشريعات التفصيلية، والأحكام العملية والفضائل والآداب العالية، فأمروا بالصلاة والصدق والعفاف، ثم أمروا بالزكاة، ثم بالصوم ثم بالحج، وبيّنت لهم أحكام النكاح والطلاق والرجعة والمعاملات، من بيع وشراء، وتجارة وزراعة، ودين ورهن..
إلى غير ذلك من المعاملات الصحيحة منها وغير الصحيحة.
ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع. بخلاف القسم المدني، فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية والتشريعات التفصيلية التي تتعلق بصيانة الدماء، والأعراض، والأموال، وصيانة العقول، والمحافظة على الأنساب سواء منها ما يتعلق بالمجتمع الصغير وهي الأسرة، أو ما يتعلق بالمجتمع الكبير وهي الأمة، وذلك كأحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدة، والحضانة والنفقة، وكالحدود، والعقود، والمعاهدات والسياسات ونحوها. وتفصيل ما أجمل قبل ذلك من الآداب والفضائل.
وقد أشارت السيدة العاقلة العالمة، التي تربت في منزل الوحي «عائشة» - رضي الله عنها- إلى هذه الحكمة، فقالت- كما ورد في صحيح البخاري-: «إنما نزل من القرآن أول ما نزل منه «سورة» (١) من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (٢).
ولا شك أن من طبيعة التدرج نزول آيات القرآن، وسوره بعضها في أثر
(٢) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب تأليف القرآن.