يتجه القرآن لهذا الإنسان فيخاطبه بكليته، وذاته كلها عقله وفكره ونفسه ووجدانه، يخاطب كينونة الإنسان كلها، وذلك بأسلوبه العجيب أسلوب التصوير الحي.
لو استعرضت القرآن من بدايته إلى ختامه فستجد طريقة خاصة بالتعبير الفني تكسو أسلوب القرآن حتى يصطبغ بألوانها البرّاقة الزاهية فإنك لن تجد فيه بيانا مجردا لمعنى ذهني، أو حالة نفسية أو حادث مادي أو مشهد منظور، أو طبيعة آدمية، أو موقف من مواقف يوم الحساب، بل تجده عبّر عن كل منها بصورة محسوسة متخيلة، حاضرة شاخصة، صورها بالألوان أو الحركات أو الإيقاع، ومزج بها جرس الكلمات ونغم العبارات، حتى تسري في أوصالها الحياة وتدب في جنباتها الحركة فإذا خلع عليها الحوار فقد نفخ فيها الروح فاكتملت فيها كل عناصر التخييل الحسي والتشخيص الحي، حتى تريك ساحة الحوادث على بساط الطبيعة والواقع، وتنسى أن هذا كلاما يتلى، لأن القرآن قد أحالك من قارئ أو مستمع إلى مشاهد يتابع أحداث المنظر وتجدد الحركات، وفيض الانفعالات الدافقة والوجدانات المتجاوبة مع الحوادث الجارية... فتتبدى لك صورة حية بارعة خلّابة، تهيمن على مشاعرك وأحاسيسك حتى تجعلك أمام قبس من الحياة الحقيقية.
أما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض وحادث يقع أمامه، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنم عن الأحاسيس المضمرة».
«إنها الحياة هنا وليست حكاية الحياة».