العزم، وأخذت ذلك بالجد والحزم، طلبا بالإتقان والتجويد، وحرصا على الشمول في مجيد حملة القرآن المجيد، فقلّ إمام به مذكور، إلا وقد تهاداني إليه رواح وبكور، إلى أن نسقهم سلك إسنادي، ووريت بلقائهم زنادي، وخدمت أنديتهم التي تحتم الرحمة فيها، وتضع الملائكة أجنحتها لمنتديها، فصدرت بحمد الله عن الأئمة والرواة كما صدر الظمآن عن الفرات، والله تعالى ينفع بعمر أنفقته في سبيله، وقطعته بين قديم تنزيله وحديث رسوله، ويوجه ذلك إلى رضاه وقبوله، فقدر الحامل قدر محموله.
وما امتطيت من المشقة ما امتطيت، ولا تخطيت إلى الأئمة ما تخطيت، إلا لتلقي القرآن غضّا من أفواههم، وتثقيف أود الحروف عن ألسنتهم وشفاههم، فيتصل بالأداء الأداء، ويرتقي بنا الاهتداء في أقوام سمت غير ذي عوج، ولاءمت بين سماطي ثقات وسطوي هداة أثبات، يهدوننا في كل مجهل، ويورد بنا إليه ﷺ من منهل إلى منهل، حتى تصافح بنانه، وتسمع فصاحته وبيانه، وتراه يقرئ زيدا وأبيّا، ويبشرهم بالإيمان حيّا فحيّا.
ومن ركب هذه المحجة البيضاء، واستنار بنور الله واستضاء، ولم يعد إلى هذه المنزلة طافح همته ولامح طرفه، وتمسك بكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد استمسك بالعروة الوثقى، ورقى أعلى مرتقى، وترك الخلاف للإجماع والافتراق للاجتماع، وفاز بملء القلوب والأسماع، كتاب عزيز أحكمه وفصله، وقرآن عظيم/ نزّله ووصله، وتكفل بحفظه ولا ضيعه على ما تكفله، لا يدركه البلى، ولا يزيده إلا جدة كثرة ما يتلى، معدن الحكم ومعجز الأمم، ومناح الفكر والفطن، وينبوع الفرائض والسنن، ينفد (١) البحر ولا ينفد (١) عجائبه، ويحصى القطر ولا تحصى غرائبه، يسره بلسان نبيه ﷺ للذكر والإفهام، وجعله قيما غير
ذي عوج من الكلام، ووصله بالنظائر والأشكال، وفصله بالحكم البالغة والأمثال، وجلّ عن المثال، وتمت به النعمة، وكمل الدين كل الكمال، لو أنزل على الجبال لتصدعت من خشية

(١) في الأصل: (ينفذ)، وهو خطأ، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف: ١٠٩].


الصفحة التالية
Icon