والكعبة بحجارة المنجنيق تحذف، وفلقها يرفض، والمنايا بها تسمو ثم تنفض، فبينما هو قائم في أربط جأش وأمكنه، إذ مرت فلقة منها بين نحره وذقنه، فما تطامن ولا قهقر،/ ولا تقدم ولا تأخّر، ولا بالى لها بالا، ولا التفت يمينا وشمالا، فقال له قائل وقد استعظم ما رأى من جلده، والكل قد ألقى بيده: هلا انحرفت عن إقبالك، والتفتّ حذارا عن يمينك أو شمالك! فقال (١): وما عسى كانت تقي التفاتة لو التفتها من صلاتي.
وروي أن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (٢) رحمه الله في قصة شائعة مستفيضة، قام إلى نافلة بعد فريضة فأطال، وأصحابه يستبطون أمثاله، وينهون محادثته وسؤاله، فبعد لأي ما سلّم، وبدا على وجهه أنه شكا أو تألّم، فقال لبعضهم: تأمل ثوبي فإني أجد فيه شيئا، فرفعه فإذا زنبور قد أبره بضع عشرة إبرة، وجسمه قد أسر، فعجب الحاكي واعتبر، وقال: هلا أوجزت وتكلمت لأول ما تألمت، فقال: كنت في سورة لم أرد قطعها.
فهذه عصمكم الله طريقة القوم المثلى، وهديهم الأوضح الأجلى، ومحلهم الأرفع الأعلى؛ فعليكم أمم قصدهم فاسلكوه، ودعوا فضل جهدهم فلن تدركوه، أما أن التعليق بهم كيف كانت شهادة، والنظر إلى سبقهم مع التقصير عنهم عبادة، واعلموا أنّ لأهل القرآن إذا كانوا من أهله وأصابوا وجه تلاوته وحمله الفضل الذي لا يدرك، والحظ الذي لا ينازع ولا يشرك؛ لأنهم إلى ربهم منقطعون، ولكلامه الذي أنزل على نبيه ﷺ تالون ومستمعون، وإلى تعلمه وتعليمه مجتمعون، فما منهم إلا عبق اللسان، طيب الحجرات والأردان، مشغول مشغوف بالقرآن، قد جعله هجيراه وراحته/ وذكراه، لا يثنون إلى غيره طرفا، ولا يعجبون بكلام ما خلاه حرفا، ولا يقبلون للحروف عدلا ولا صرفا، حتى تخرج من مخارجها، وتسير على

(١) في الأصل: (فقالت).
(٢) أخرج القصة الخطيب البغدادي في «تاريخه» (٢/ ١٢)، والمزي في «تهذيب الكمال» (٢٤/ ٤٤٦ - ٤٤٧)، والسبكي في «طبقات الشافعية» (٢/ ٢٢٣)، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٤٤١ - ٤٤٢)، وابن حجر في «هدي الساري» (ص/ ٦٦٦).


الصفحة التالية
Icon