وبيان ذلك كالآتي:
لمّا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدين الجديد من عند الله تعالى؛ لينقذ البشرية الضالة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد الواحد الأحد، فآمن به من آمَنَ من أهل مكة، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة أعوام يدعو إلى دين الله من غير قتال، فلقد صبر -عليه السلام- هو وأصحابه على أذى مشركي مكة في هذه الأعوام، فلما رأت قريش أنّ الدين الجديد يزداد معتنقوه يومًا بعد يوم اعتدوا على من أسلم، واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على مَنْ فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش برمضاء مكة إذ اشتد الحر، على مَن استضعفوا منهم، يحاولون أن يفتنوهم عن دينهم، فمنهم مَن يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه.
ولمّا أشتد أذى المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه، حتى بلغ بهم الأمر أنّهم أجمعوا أمرَهم على اغتيال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلّمه الله بما دبّروا له، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: ٣٠) فأذن الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة المنورة؛ ليلتحق بأصحابه هناك، فبايعه أهلُ المدينة على الطاعة والنصرةِ، ولقد صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه على كلّ اعتداءات المشركين، حتى أنّ بعض أصحابه قتل من جراء العذاب؛ منهم سمية أمّ عمار بن ياسر، التي عذّبها آل المغيرة مع زوجها على إسلامهما؛ ليرجعَا عنه فلم يرجعا، وماتت أم عمّار تحت العذاب.
وصبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى أن نزلت الآيات بالإذن بالقتال، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: ٣٩) وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: ٧٥).