الأخرى؛ يعني: من قدر على البدء قدر على الإعادة، وأنه لو كان عاجزًا عن الثانية، لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني -أي: فكذلك الإعادة- فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيى العظام وهي رميم!.
ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جوابًا عن سؤال ملحد آخر، يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وطبيعتها حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معًا، فقال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فإذا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون﴾ فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد من إحياء العظام وهي رميم.
ثم أكد سبحانه هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على الشيء العظيم الجليل، فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار، فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ (يس: ٨١) فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكِبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾ (غافر: ٥٧).