وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ (الأحقاف: ٣٣) ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكُلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومُعين، بل يكفي في خلقه؛ أي: في خلق الله لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكوَّن: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ فإذا هو كائن كما شاء وأراد.
ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله، قال تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾ (يس: ٨٣) ومن هذا قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ (القيامة: ٣٦ - ٤٠).
فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملًا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشدَّ الإباء، كما قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون﴾ (المؤمنون: ١١٥).
فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شَقَّ سمعه وبصرَه وركَّبَ فيه: الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصابَ، والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرةً ثانيةً؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدًى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته، فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقربَ منه.