هذه المسألة أيها الابن الحبيب تذكرنا بما قاله المنتجب صاحب (الفريد في إعراب القرآن المجيد) عندما تعرض لقضية الحرف الزائد فقال كلامًا بديعًا مؤداه: أنه لا يشعر بقيمة هذا الحرف في سياق الكلام إلا من يشعر بقيمة الوزن في سماع الشعر، بمعنى أن الذي يسمع الشعر وفطرته وسجيته شاعرية عندما يأتيه بيتٌ فيه كسر يقول: هنا كسر وربما لا يعرف سبب الكسر بطبيعته وبسجيته، فكذلك مستمع القرآن لو حُذف هذا الحرف الذي ادُعي زيادته أو أطلق عليه بالزائد- تجد أن المستمع الذي يطرب لسماع القرآن وأذنه ألفت سماع كلام الله -سبحانه وتعالى- تجده في هذا الموضع يشعر بخلل قد حدث، فإذا ما وُجد هذا الحرف وجدت الانسياب والجمال الذي يسير عليه النسق القرآني، هكذا مثّل الرجل رحمه الله.
نرجع لكلام الشيخ يقول: فإن المراد بالآية الأولى تصوير لين النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ جاء وصفًا لفظيّا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية، لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها وهو لفظ ﴿رَحْمَةٍ﴾ مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
الآية الثانية: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ﴾ تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف -عليه السلام- وبين مجيئه هذا؛ "أَنْ" التي وقعت بين "لَمَّا وجَاءَ" تصور لنا الفصل الزمني بين مجيء البشير ليعقوب -عليه السلام- بقميص يوسف -عليه السلام- للبعد بين مكان يوسف -عليه السلام- ومكان أبيه، هذا في مصر والآخر في فلسطين؛ فهذا المجيء بحرف أَنْ يصور لنا البعد بين المكانين وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب، تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره غنة هذه