هذا الموضع ليس على معنى المطاوعة، وإنما هو على معنى غفل ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ أي: غفل قلبه عن ذكرنا.
ومن ثَمّ فإنّ المولى -سبحانه وتعالى- كأنه يقول: "ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" أي: لا تطع من فعل كذا وكذا؛ فعدد أفعاله التي توجب ترك طاعته، ولعل في القراءة الشاذة: "ولا تطع من أغفلَنا قلبه" بفتح اللام في "أغفل" وبرفع قلبه على الفاعلية ما يؤيد المعنى الذي ذهب له ابن الأثير في هذا الموضع.
وبعد ذلك انتقل على استخدامات حروف الجر، وضرب مثالًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين﴾ (سبأ: ٢٤) يقول: ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود بمخالفة حرفي الجر ها هنا؛ فإنّه إنّما خُولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ فمَع الحقِّ قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿لَعَلَى هُدًى﴾ (الحج: ٦٧) ومع الباطل استخدم حرف الجر "في" ﴿أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين﴾ (سبأ: ٢٤).
لأنّ صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يرقد به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، فمن ثم استخدم "على" مع الهدى والحق، واستخدم "في" مع الضلال، وهذا استخدام القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيم﴾ (يوسف: ٩٥) مع أن المتحدث لو وضع حرفًا مكان حرف لكان ذلك جائزًا، إلّا أنّ الاستخدام القرآني يرنو إلى الدقة، وإلى الفصاحة في استخدام الحروف؛ فمن الناس من يقول: "أنت على ضلالك كما أعهدك" فيأتي بـ"على" بموضع "في" وإنما الأولى أن تكون مع الضلالة حرف "في" ومع الهداية حرف "على" كما استخدمه القرآن الكريم.


الصفحة التالية
Icon