استدل أيضًا بقول عمرو بن معديكرب:
فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم | نطقت ولكن الرماح أجرتني |
فهنا واضح أن الرماح أجرتني، وأن المحذوف هو ياء المتكلم، فالحذف هنا أدى وظيفة أكبر من مجرد حذف مفعول معلوم لدى المخاطب، فالشاعر هنا يبين أن قومه لم يبلوا بلاءً حسنًا ولم يستعملوا رماحهم ولا يظهروا قوتهم، ولو أنهم كانوا عملوا ذلك لكان ذلك مدعاةً بأن ينطق بمدحهم، وأن يذكر مفاخرهم، إلا أنهم عندما تقاعسوا عن ذلك أخرسوه، فلم يستطِعْ أن يتحدث، فلو قال: "ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ولكن الرماح أجرت غيري". فذلك غير متصور، فلا هو لا يتحدث إلا عن نفسه؛ وذلك لأنه لا يريد إثبات أنه أُخرس عن مدح قومه، وإنما يريد أن يثبت أنه كان للرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحح وجودَ ذلك، فلو قال: أجرتني، جاز أن يتوهم أنه لم يعنَ بأن يثبت للرماح إجرارًا، بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته، أي: أخرسته وقطعت لسانَه عن مدح قومه، فقد يُذكر الفعلُ كثيرًا والغرض منه ذكر المفعول، ومثاله الواضح في كلامنا عندما تقول لأحد: أضربتَ محمدًا؟ مثلًا، فإنك لا تنكر عليه الضربَ، وإنما تنكر عليه ضربَ محمدٍ دون غيره.
من الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: البيان بعد الإبهام، أو ما أَطلق عليه الجرجاني "الإضمار على شريطة التفسير". ومن لطيف ذلك قول البحتري:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم | كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد |
فالأصل في الكلام: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حلف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ولا يخفى عليك أنك لو قلتَ: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، سِرتَ إلى كلام غث، وإلى شيء