يمجه السمع، وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك النفس إلى بيانه وسماعه.
واستدلوا لذلك بأن هذا الأمر -أي: البيان بعد الإبهام- يكثر مع فعل المشيئة، وهو كثير في كتاب الله -سبحانه وتعالى- كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ (الأنعام: ٣٥) أي: لو شاء الله جمعهم لجمعهم. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (النحل: ٩) أي: لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين.
ومثل فعل المشيئة في حذف المفعول ما في قوة المشيئة كفعل الاستطاعة، كقول القائل: ولو أني استطعت غضت طرفي فلم أبصر به حتى أراك، أي: لو أني استطعت غض طرفي غضته، وحكم المشيئة لا يختص بحرف "لو" وإنما يأتي على سائر أدوات الجزاء -حروف الجزاء- وأسماء الجزاء، حروف مثل "إنْ" فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشورى: ٢٤) وأسماء نحو "مَن" كقوله تعالى: ﴿مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأنعام: ٣٩) فمعروف التقدير: فإن يشأ الله الختم على قلبه ختم، وإن يشأ الله إضلاله أضله. فهنا مِن حذف المفعول.
وتطرق الجرجاني إلى المواضعَ التي يُذكر فيها المفعولُ مع فعل المشيئة، فهو يقصر حذف المفعول مع فعل المشيئة، وإنما هناك مواضع يحسن فيها ويفضل فيها أن يذكر المفعول ولا يحذف، وذلك إذا كان الأمر الذي يتعلق بالمشيئة أمرًا عظيمًا أو غريبًا، فإنه يحصل هنا أن يصرح به، ويمثلون له بقول الشاعر:
قضى وطرًا منك الحبيب المودِّع | وحل الذي لا يُستطاع فيُدفع |
ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتُه عليه | ولكن ساحة الصبر أوسع |