فبكاء الدم شيء عجيب، ولو حذفه الشاعر فقال: "ولو شئتُ بكيت دمًا" لَمَا اطمئن إليه السامع ولا تلقاه بالقبول، لذا كان الأولى أن يصرح الشاعر بذكره؛ ليقرره في نفس السامع، ويؤنسَه به.
وخير ما يمثل له في هذا المجال ما ورد في القرآن الكريم من التصريح بفعل المشيئة في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ (الزمر: ٤) فذكر مفعول المشيئة أي: لو أراد الله اتخاذ الولد لاصطفى مما يخلق ما يشاء؛ لأن من الغرابة أن يَتخذ رب العالمين ولدًا. وكذلك: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ (الأنبياء: ١٧) فذكر المفعول وهو المصدر المؤول المكون من "أل" وما دخلت عليها في هذا المقام أبدع وأحسن من عدم ذكره؛ لأن الأمر المتعلق بالإرادة أو المشيئة هو أمر عجيب غريب على السامع، فلا بد أن يُذكر.
ومن الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: إرادة ذكره مرةً ثانيةً، بحيث يعمل الفعل في صريح لفظه لا في ضميره العائد عليه؛ إظهارًا لكمال العناية بوقوع الفعل عليه. ويمثلون له بقول البحتري:

قد طلبنا فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا
فالتقدير: قد طلبنا مِثلًا فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا، فلم يذكر المفعول أولًا ويعمل فيه الضمير ثانيًا فلو قال: قد طلبنا مثلًا فلم نجده، لم يكن مثل هذا القول الذي قاله في بيان المعنى؛ وهذا لأنه لو قال: قد طلبنا مثلًا، ربما يشعر بجواز أن يكون له مثل؛ لأن العاقل لا يطلب إلا ما هو موجود، أما حَذْف المفعول ها هنا يبين أنه لا يوجد أصلًا "مثلًا" لهذا الممدوح الذي يذكره، ولذلك بعضهم أطلق على هذا الغرض أنه من التحرز عن مواجهة الممدوح بما لا يليق، فلو قال له: "مثلًا"، ابتداءً، ربما ظن الممدوح أنه يقلل من شأنه، وأن هناك مَن يضاهيه.


الصفحة التالية
Icon