الموضع الأول: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، وأشير أن هناك فرقا بين كلام البلاغيين عن التوكيد، وكلام النحاة عن التوكيد؛ فالتوكيد اللفظي عند البلاغيين: يعنى به اتحاد المضمون بين التابع والمتبوع، كقوله تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ (الطارق: ١٧)، فـ ﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ توافق الجملة الأولى في اللفظ والمعنى، وهو توكيد لفظي للأولى وبذلك أصبحت الصلة قوية بين الجملتين لا تحتاج إلى رابط؛ لأن التوكيد من المؤكد كالشيء الواحد، ومن ثم ترك العطف لعدم صحة عطف الشيء على نفسه.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: ١، ٢)، فجملة ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ هي مضمون الجملة الأولى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ إذ معنى ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أنه الكتاب الكامل في الهداية، وذلك لما في تنكير ﴿هُدًى﴾ من الإبهام الدالِّ على التّفخيم؛ فهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الكتاب هدى فهو الهداية نفسها، وهذا بعينه هو المقصود من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ إذ إن معناه: ذلك الكتاب الكامل في الهداية، فهي بمثابة التوكيد اللفظي لسابقتها. ومثال التوكيد المعنوي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ (البقرة: ٨، ٩) فتجد الجملة الثانية: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ لا تختلف من حيث المعنى عن سابقتها ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ (البقرة: ١٤) لأنهم يقولون: آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين؛ فلا فرق في المعنى بين الجملتين؛ فمعنى الآية الثانية يؤكد مضمون معنى الأولى توكيدًا معنويًّا، ومن ثم ترك العطف بالواو؛ لأن اتحاد الجملتين يمنع العطف، كما قلنا لأنّ الشيءَ لا يعطف على نفسه.


الصفحة التالية
Icon