فكأنك قلت: استقر في الدار زيد، وقال الأخفش والفراء (١): إنَّ معنى الختم قد انقطع ثم استأنف، فقال: «وعلى أبصارهم غشاوة»، وكرر لفظ «على»؛ ليشعر بتغاير الختمين، وهو إنَّ ختم القلوب غير ختم الأسماع، وقد فرَّق النحويون بين: مررت بزيد وعمرو، وبين مررت بزيد وبعمرو، فقالوا في الأول: وهو مرور واحد، وفي الثاني: هما مروران.
وقرأ عاصم، وأبو رجاء العطاردي (٢): ﴿غِشَاوَةٌ﴾ [٧]، بالنصب (٣) بفعل مضمر، أي: وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق. فحذف الفعل؛ لأنَّ ما قبله يدل عليه كقوله:

يَا ليتَ زَوجَكِ قَد غَدا مُتَقَلِّدًا سَيفًا وَرُمحا (٤)
(١) يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، مولى بني أسد، أبوزكرياء، المعروف بالفراء: إمام الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، كان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو، ومن كلام ثعلب: «لولا الفراء ما كانت اللغة»، ولد بالكوفة، وانتقل إلى بغداد، وعهد إليه المأمون بتربية ابنيه، فكان أكثر مقامه بها، فإذا جاء آخر السنة انصرف إلى الكوفة فأقام أربعين يومًا في أهله يوزع عليهم ما جمعه ويبرهم. وتوفي في طريق مكة، وكان مع تقدمه في اللغة فقيها متكلما، عالما بأيام العرب وأخبارها، وكان يتفلسف في تصانيفه، واشتهر بالفراء، ولم يعمل في صناعة الفراء، فقيل: «لأنه كان يفري الكلام»، ولما مات وجد «كتاب سيبويه» تحت رأسه، فقيل: «إنه كان يتتبع خطأه ويتعمد مخالفته»، من مصنفاته: المصادر في القرآن، آلة الكتاب، الوقف والابتداء، المقصور والممدود، واختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف، (ت ٢٠٧ هـ). انظر: وفيات الأعيان (٢/ ٢٢٨)، وغاية النهاية (٢/ ٣٧١)، مراتب النحويين (ص: ٨٦ – ٨٩)، معجم الأدباء (٢٠/ ٩ ١٤)، وأخبار النحويين البصريين (ص: ٥١)، تذكرة الحفاظ (١/ ٣٣٨).
(٢) أبو رجاء العطاردي، الإمام الكبير، شيخ الإسلام، عمران بن ملحان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي - ﷺ -، حدَّث عن عمر، وعلي، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، وأبي موسى الأشعري - وتلقن عليه القرآن، ثم عرضه على ابن عباس، وهو أسن من ابن عباس، وكان خير التلاء لكتاب الله، قرأ عليه أبو الأشهب العطاردي وغيره، وحدَّث عنه: أيوب، وابن عون، وعوف الأعرابي، وسعيد بن أبي عروبة، وسلم بن زرير، وصخر بن جويرية، ومهدي بن ميمون، وخلق كثير (ت١٠٥هـ). انظر: الطبقات لابن سعد (٧/ ١٣٨)، تاريخ البخاري (٦/ ٤١٠)، تاريخ الإسلام
(٤/ ٢١٧).
(٣) لم يرد عن عاصم ولا عن رجاء النصب، وإنما الوارد هو الرفع فاعلمه.
(٤) والبيت من مجزوء الكامل، وهو لعبد الله بن الزبعرى (؟ - ١٥ هـ /؟ - ٦٣٦ م) عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي، وأمه عاتكة الجمحية بنت عبد الله بن عمير، شاعر قريش في الجاهلية، وكان شديدًا على المسلمين إلى أن فتحت مكة، فهرب إلى نجران، فقال حسان فيه أبياتًا، فلما بلغته عاد إلى مكة فأسلم واعتذر ومدح النبي - ﷺ -، فأمر له بحلة، وقد سجل في شعره حادثة الفيل، وحرمة مكة ومنعتها، وتحدث عن حرب الفجار وبلاء بني المغيرة فيها، ومن الأحداث التي أثَّرت في نفسه وسجلَّها في شعره أن أناسًا من قُصَيّ دخلوا دار النَّدوة لبعض أمرهم، فأراد عبد الله أن يدخل معهم فيسمع مشورتهم فمنعوه فكتب شعرًا في باب النَّدوة، فلما أصبح الناس وقرؤوا شعره أنكروه وقالوا: (ما قالها إلا ابن الزبعرى)، فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة بالحجون حتى أطلقه بنو عبد مناف، وروى كعب بن مالك في شعره يتهم الزبعرى أنه هجا الرسول - ﷺ -، غير أنه لم يرد في شعره ما يدل على ذلك. ذكره المبرد في الكامل في اللغة والأدب، وعبد القادر البغدادي في خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب.- الموسوعة الشعرية


الصفحة التالية
Icon