وحده فهذا أحسن الأقوال وفيها قولان آخران.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ)، كما تقول للرجل: إن
كنت أبي فتعطف عليَّ، أي إن كنت أبي فواجِبٌ أن تتعطف على، ليس أنه
شك في أنه أبوه.
وفيها وجْهٌ ثَالِثٌ: أن تكون " أنْ " في معنى " مَا " فَيكون المعنى ما كنت
في شك مِما أنْزَلنا إليْكَ، فاسأل الذين يقرأون، أي لسنا نأمرك لأنك شاك.
ولكن لتزداد، كما قال إبراهيم: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
فالزيادة في التثبيت ليست مما يبطل صحة القَصد (١).
* * *
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨)
فهلَّا كانت قرية.
قال الشاعر.
تَعُّدُونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.
الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: ﴿يا أيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ [الأحزاب: ١] وكقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] وكقوله: ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة ﴿يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى﴾ [يونس: ١٠٤] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.
الثاني: أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.
والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول ﷺ إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.
الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: «يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: ﴿أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: ﴿سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن﴾ [سبأ: ٤١] وكما قال لعيسى عليه السلام: ﴿أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.
الوجه الثالث: هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ﴾ فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع.
ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ﴾ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا.
ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس: قال الزَّجَّاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّ﴾ وهو شامل للخلق وهو كقوله: ﴿يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء﴾ [الطلاق: ١] قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع: هو أن لفظ ﴿إن﴾ في قوله: ﴿إِن كُنتَ فِى شَكّ﴾ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: ﴿يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ﴾ [الانفطار: ٦، ٧] و ﴿يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ﴾ [الانشقاق: ٦] وقوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ﴾ [الزمر: ٤٩] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين﴾. اهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٧ صـ ١٢٨ - ١٣٠﴾