(إِنِّي سَقِيمٌ) أي سأسْقَم لا محالة.
وقد روي في الحديث: لم يكذب إبراهيم إلا في ثَلَاثةٍ، وَقَدْ فَسَّرنَا ذَلِك، وأن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة في قوله:
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).
على معنى: إنْ كَانُوأ يَنْطِقون فَقَدْ فَعَله كَبِيرُهُمْ
وقوله: " سَارَّةُ أخْتِي "، أي أختي في الإسلام.
وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) على ما فسَّرنا.
* * *
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)
معنى راغ عليهم مال عليهم، وضرباً مصدر، المعنى فمال عَلَى الأصنام
يضربُهُمْ ضرباً بِالْيَمِينِ، يحتمل وجهين (١):
بيمينه، وبالقوة والمكانة.
وقال: (عَلَيْهم) وهي الأصنام لأنهم جعلوها معبودةً بمنزلة ما يميز كما قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
* * *
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
يعني قوم إبْرَاهِيم.
(يَزِفُّونَ) يُسْرِعُونَ إلَيْهِ. ويقرأ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ (٢).
(يَزِفُّونَ) - بفتح الياء وُيزِفُّونَ - بِضَفمهَا، وَيزِفُونَ - بتخفيف الفاء.
وأَعْرَبُها كُلُّها (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عَدْوِهَا، يقال زَفَّ النعام يَزِفُّ.
ويُقْرَأ يُزِفُّون أي يصيرون إلى الزفِيفِ.
ومثله قول الشاعر:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَن يَسُودَ جِذاعَه... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذلَّ وأُقْهِرا
معنى أَقْهَرَ صار إلى القَهْرِ.
وكذلك يُزِفونَ.
فأما يَزِفُونَ - بالتخفيف فهو من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَع، ولم يَعْرِفُهُ الفَرَّاء، ولا الكِسَائِى، وعَرفَه غيرُهمَا.
* * *
وقوله: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)

(١) قال السَّمين:
و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ﴾ [الأنبياء: ٥٧]. والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿يَزِفُّونَ﴾: حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا»، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان».
وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon